بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَميْنَ، وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِيْنَ

اللهم صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعَلى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلى إبْرَاهِيمَ وعَلى آلِ إبْرَاهِيمَ في العَالَمينَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيْدٌ، وَبَارِكْ وَسَلِّمْ

هَذِه مُدَوَنَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالرِّوايةِ والإِسْنَادِ ومَا يتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ عُلُومٍ وَفُنُونٍ.

وَفَّقَ اللهُ تَعَالى صَاحِبَها والمُشَارِكِينَ فيها والمُطَّلِعينَ عَلَيهَا لما فِيْهِ رِضَاهُ.

مُلاحَظَةٌ: المُدَوَّنَةُ الآنَ في طَور الإِنْشَاءِ والإِعْدَادِ (البَثّ التَّجْرِيْبِيّ)

السبت، 3 ديسمبر 2011


حول حديث أبي قتادة رضي الله عنه في فضل صوم عاشوراء

وتسلسل سماعه في هذا اليوم- 1
كان من هدي نبينا ﷺ صيام هذا اليوم شكراً لله تعالى، وصيام يوم قبله أو بعده مخالفة لمن صامه من أهل الكتاب وغيرهم، فاللهم وفقنا و المسلمين لاغتنام صيام هذا اليوم الفاضل، وانصرنا جميعاً على أنفسنا وشياطيننا وأعدائنا كما نصرت فيه نبيك وكليمك موسى صلى الله عليه وسلم ومن معه على عدوك فرعون وجنوده.
نعم، وكان من هديه أيضاً: الأمر بذلك، والتذكير به والترغيب فيه، وبيان فضائله، وتبعه على ذلك أصحابه وأتباعم بإحسان من أهل العلم والإيمان بتبليغ أحاديث نبيهم في ذلك..
والأحاديث في صوم عاشوراء وفضله كثيرة جمعها وشرحها خلق من أهل العلم قديماً وحديثاً، وعقدوا لها الأبواب في مصنفاتهم، بل أفردت في ذلك تآليف كثيرة..
والناقلون لتلك الأحاديث لتفاوتهم في الضبط تفاوتت أحكام مروياتهم منها، وكعادة الوضاعين لم يخلوا هذا الباب من كذبهم، وكان صيارفة السنة وجهابذة الحديث لذلك بالمرصاد والحمدلله. 
ولعل أصح ما ورد في عظيم ثواب صيام ذلك اليوم حديث أبي قتادة رضي الله عنه المتضمن لكونه يكفر سنة، وهو مخرج في في "صحيح مسلم" وغيره.
وقد اتفق لهذا الحديث أمر لطيف في روايته في القرون المتأخرة، وذلك أنَّ حافظ الديار المصرية بل حافظ وقته الإمام الكبير الزكي المنذري رحمه الله تعالى أملى في أواخر حياته مجلساً لطيفاً في يوم عاشوراء وافتتحه بحديث أبي قتادة هذا.
وقد سمع هذا المجلس منه جماعة، كان من بينهم ابن لأحد تلاميذه -على عادتهم في إحضار أبنائهم في مثل هذه المجالس-، وقد عاش هذا الابن عمراً طويلاً بعد أن اعتنى به والده وسمَّعه الحديث النبوي على شيوخ وقته، فاشتهر بذلك وقصده الناس وازدحموا عليه، ومما حدَّث به وسُمع عليه هذا المجلس، وكان تحديثه به في يوم عاشوراء أيضاً.
ثم حدَّث به بعض سامعيه عليه -بعد أن صار مسنداً شهيراً معمراً- في ذلك اليوم أيضاً.
ثم استُملح هذا التسلسل في تاريخ سماع المجلس المذكور مع مناسبة التاريخ لموضوعه ولا سيما أول حديث منه، فالتزم كثير من أصحاب الرواية سماعه في ذلك التاريخ للمناسبة المذكورة، ولتحصيل التسلسل المذكور، وإبقائه، مع ما في ذلك من المناسبة الشرعية التذكير بفضل صوم هذا اليوم والحث على ذلك، والترغيب في احتساب ثوابه ممن صامه..
ولما فترت الهمم واضمحل شأن الرواية بالنسبة لما كان عليه اقتصر المتأخرون على سماع الحديث الأول من المجلس المتعلق بفضل صوم يوم عاشوراء، وهو حديث أبي قتادة المشار إليه، وصاروا يوردونه مفرداً في كتب المسلسلات والمؤلفات في الأسانيد والروايات المعروفة بالأثبات، ومنهم صاحب «المنح البادية» محمد بن عبدالرحمن بن عبدالقادر الفاسي.
وأكثر ما اشتهر هذا المسلسل في الديار المصرية التي فيها نشأ التسلسل، حيث إنها بلد مملي المجلس المشتمل على حديثه، وبلد رواته الأولين طبقة طبقة، وممن أورده في "ثبته" العلامة محمد بن محمد السنباوي المصري المعروف بالأمير الكبير، ولكنه أورده مجرداً من غير بيان سنده فيه كعادته في متابعة صاحب »المنح».
ثمَّ ألف ابنه وسميه محمد المعروف بالأمير الصغير رسالة في ذكر سند هذا الحديث، وألحق به كلاماً في فضل هذا اليوم، وصار لهذه الرسالة شهرة وتداول في الديار المصرية في طبقة تلاميذه وتلاميذهم، ودرسها منهم جماعة تدريساً، وعلق بعضهم عليها تقريرات وحواشي.
واستمر سماع هذا الحديث في يوم عاشوراء إلى زماننا عاماً عاماً، واشتهر عند المشتغلين بهذا الفن والمتصلين بهم.
ومع أنَّ الظاهر أنَّ هذا الحديث لم يزل يُذكر في يوم عاشوراء وبين يديه من كل عام قروناً طويلة قبل إملاء المنذري لمجلسه -إن لم نقل من القرن الأول- لما فيه من عظيم الترغيب في صيام هذا اليوم وبيان فضله، مع هذا فلم يوجد التنصيص على تسلسل سماعه في هذا اليوم في إسناد من أسانيده إلا بعد إملاء المنذري له ضمن مجلسه في ذلك اليوم، ثم استمر ذلك بعده في رواة هذا المجلس..
وحتى مجلس المنذري وهو مصدره الأصيل، ليس فيه ذكر شيء من التسلسل في طبقة من طبقات السنة لا بينه وبين شيخه، ولا ما فوقها، وقد طبع المجلس وانتشر بحمدالله تعالى..
لكن لما صار من طريقة عامة المتأخرين - على فضل كثير منهم وإمامتهم في العلم- تمحيض اشتغالهم في الرواية ومتعلقاتها للتبرك فقط تسامحوا وتساهلوا في شرائط الرواية المعلومة عند المحدثين من الضبط والتحقيق والإتقان للمروي، فأدى ذلك إلى كثرة الأخطاء في كلامهم ومؤلفاتهم المتعلقة بالرواية، وزاد ذلك تعقيداً ورسوخاً تواردهم عليه وتتابعهم فيه من غير تمحيص..
ولم يخل وقت من تحقيق وتمحيص بحمدالله تعالى إلى زماننا فإن الدين ومصادره محفوظة، ولكن جانب الرواية ناله تساهل كبير وتقصير شديد بالنسبة إلى ما كان الأمر عليه عند أئمة هذا الشأن رحمهم الله تعالى..
ومن ذلك: أنَّ بعض أصحاب المسلسلات والأثبات مدوا التسلسل في حديث أبي قتادة ورفعوه إلى طبقات فوق المنذري، بل وصله جماعة إلى النبي ﷺ.
وزاد بعض المعروفين بالتزيد فأفرده بالتأليف وأورد له طرقاً من غير طريق المنذري التزم فيها التنصيص على التسلسل وليس لهذا كله أصل، وباب الرواية لا مدخل فيه للنظر والقياس والاحتمال بل هو نقل محض، ثم نقد ومخض، وإدخال الاحتمالات في المرويات يوهيها وربما أسقطها لأنها حكاية عن الواقع، والمحكي إما أن يكون وقع أولا يكون.. وليس هو رأي يعرضه الإنسان، وفكرة يبديها يكون هو أبوعذرتها..
وبعدُ فهذه كليمات بين يدي هذا اليوم المبارك فيها كثير من الإجمال، لعل الله تعالى يأذن بتفصيله فيما يلي من الأيام، وبه الاستعانة ولا قوة إلا به..